فصل: القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (84- 86):

قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى: {وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى: {مدين} وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام: {أخاهم شعيبًا} فكأن قائلًا قال: ما قال لهم؟ فقيل: {قال} ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين: {يا قوم} مستعطفًا لهم مظهرًا غاية الشفقة: {اعبدوا الله} أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئًا لأنه واحد: {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله غيره} فلقد اتفقت- كما ترى- كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعًا من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية في ذكر الأنبياء: اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص، عبروا بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول، وقال قبل ذلك: إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم: {تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى} [الحشر: 14] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت- انتهى.
ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدنًا فقال: {ولا تنقصوا} أي بوجه من الوجوه: {المكيال والميزان} لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل: تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن: تعديله في الخفة والثقل، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله: {إني أراكم بخير} أي بسعة تغنيكم عن البخس- مرهبًا ومرغبًا بالإشارة إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة.
ولما كان كأنه قيل: فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص، عطف عليه مؤكدًا لإنكارهم: {وإني أخاف عليكم} به وبالشرك: {عذاب يوم محيط} بكم صغارًا وكبارًا وبأموالهم طيبًا وخبيثًا، أي مهلك كقوله: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول، وهو الدائر بالشيء من كل جانب، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان: أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن، تعديل الشيء بالميزان، كما أن الكيل تعديله بالمكيال، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا».
ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفًا لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها: {ويا قوم} أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم: {أوفوا} أي أتموا إتمامًا حسنًا: {المكيال والميزان} أي، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله: {بالقسط} أي العدل السوي، فصار الوفاء مأمورًا به في هاتين الجملتين مرارًا تأكيدًا له وحرصًا عليه وإظهارًا لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند: {غير منقوص} أن الشيء يطلق مجازًا على ما قاربه؛ ثم أكده أيضًا بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال: {ولا تبخسوا} أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة: {الناس أشياءهم} ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال: {ولا تعثوا في الأرض} أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم: {مفسدين} أي فاعلين ما يكون فسادًا في المعنى كما كان فسادًا في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة عثى بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث- للأرض السهلة، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث- لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى: الأحمق الثقيل، واللون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة: عثى وعاث: أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي: عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثًا، وهو الإسراع في الفساد، فالمعنى على ما قال الجمهور: ولا تفعلوا الفساد عمدًا وهو واضح، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح، وعلى ما قال الزبيدي: ولا تسرعوا فيه، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيدًا حتى ينصب النهي إليه، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة- والله أعلم؛ والوفاء: تمام الحق؛ والبخس: النقص، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه.
ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصورًا على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجبًا لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا: إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال: {بقيت الله} أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره: {خير لكم} مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضًا بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلانًا- إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون: أراك تبقي هذا ببصرك- إذا كان ينظر إليه- قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة.
ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعًا: {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى: فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير: {وما أنا} وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافيًا له فقال: {عليكم} وأعرق في النفي فقال: {بحفيظ} أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فسادًا؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال العلامة النيسابوري رحمه الله:

.القراءات:

{إني} بالفتح: {أريكم} بالإمالة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي، وكذلك روى عن أهل مكة: {إني أخاف}، {شقاقي أن} بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو: {وصلواتك} كما مر في سورة التوبة في قوله: {إن صلاتك سكن} [التوبة: 103]، {توفيقي} بالفتح: أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع: {أرهطي} بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: {بعدت ثمود} بالإظهار: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.

.الوقوف:

{شعيبًا} ط {غيره} ط {محيط} o {مفسدين} o {مؤمنين} ج للابتداء بالنفي مع الواو: {بحفيظ} o {ما نشاء} ط {الرشيد} o {حسنًا} ط {عنه} ط {ما استطعت} ط {إلا الله} ط {أنيب} o {صالح} ط {ببعيد} o {إليه} ط {ودود} o {ضعيفًا} ج لأن لولا للابتداء مع الواو: {لرجمناك} ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه: {بعزيز} o {من الله} ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل: {ظهريًا} ط {محيط} o {عامل} ط {تعلمون} o لا: {كاذب} ط للفصل بين الخير والطلب: {رقيب} o {جاثمين} o لا: {فيها} ط {ثمود} o {مبين} o لا لتعلق الجار: {فرعون} ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال: {برشيد} o {النار} ط {المورود} o {القيامة} ط {المرفود} o {وحصيد} o {أمر ربك} ج {تتبيب} o {ظالمة} ط {شديد} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
اعلم أن هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة.
واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام، ثم صار اسمًا للقبيلة، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير: وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل.
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد، فلهذا قال شعيب عليه السلام: {مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان، دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} والنقص فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره.
والآخر: أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير. ثم قال: {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} وفيه وجهان: الأول: أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال: اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة.
والثاني: أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف.
ثم قال: {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} وفيه أبحاث:
البحث الأول:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون: بل المراد هو الخوف، لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائمًا فالحاصل هو الظن لا العلم.
البحث الثاني:
أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله: {هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77].
البحث الثالث:
اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم: هو عذاب يوم القيامة، لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين، وقال بعضهم: بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة وقال بعضهم: بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] ثم قال: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط}.
فإن قيل: وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولًا: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} ثم قال: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} وهذا عين الأول.
ثم قال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: إن فيه وجوهًا:
الوجه الأول: أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد، والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام.
والوجه الثاني: أن قوله: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} نهي عن التنقيص وقوله: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} أمر بإيفاء العدل، والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به، وليس لقائل أن يقول: النهي عن ضد الشيء أمر به، فكان التكرير لازمًا من هذا الوجه، لأنا نقول: الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقول: صل قرابتك ولا تقطعهم، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد.
الثاني: أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضًا عن أصل المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق، ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات، وإنما منع من التطفيف، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية، فلأجل إبطال هذا الخيال، منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثًا: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان.
ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة، بل في كل واحد منها فائدة زائدة.
والوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} وفي الثانية قال: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام، لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدرًا زائدًا على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس.
فالحاصل: أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان، وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولًا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصًا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله: {بالقسط} يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل.
ثم قال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} والبخس هو النقص في كل الأشياء، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الاْشياء.
ثم قال: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ}.
فإن قيل: العثو الفساد التام فقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} جار مجرى أن يقال: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
قلنا: فيه وجوه: الأول: أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني: أن يكون المراد من قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} مصالح دنياكم وآخرتكم.
والثالث: ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان.
ثم قال: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} قرئ تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي.
ثم نقول المعنى: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن: بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل، لأن ثواب الطاعة يبقى أبدًا، وقال قتادة: حظكم من ربكم خير لكم، وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا، وإما ثواب الله، وأما كونه تعالى راضيًا عنه والكل خير من قدر التطفيف، أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنسانًا بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق، وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه ألبتة فتضيق أبواب الرزق عليه، وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر، لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق، وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر، فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير.
ثم قال: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وإنما شرط الإيمان في كونه خيرًا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل.
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط، فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمنًا.
ثم قال تعالى: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وفيه وجهان: الأول: أن يكون المعنى: إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح.
الثاني: أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة. اهـ.